فصل: تفسير الآية رقم (9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة الأحزاب

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

يا أيها المُشَرَّفُ حالاً، المُفَخَّمُ قَدْراً مِنَّا، المُعَلَّى رُتْبَةً من قِبَلِنا‏.‏‏.‏ يا أيها المُرَقَّى إلى أعلى الرُّتَبِ بأسنى القُرَبِ‏.‏‏.‏ يا أيها المُخَبِّرُ عنا، المأمونُ على أسرارنا، المُبَلِّغُ خطابَنا إلى أحبابنا‏.‏‏.‏ اتقِ الله أن تلاحِظَ غَيراً معنا، أو تساكِنَ شيئاً من دوننا، أو تُثْبِتَ أحداً سوانا، أو تَتَوَهَّمَ شظيةً مِنَ الحدثان من سوانا‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعِ الْكَافِريِنَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ إشفاقاً منك عليهم، وطمعاً في إيمانهم بنا لو وافَقَتْهم في شيء أرادوه منك‏.‏

والتقوى رقيبٌ على قلوب أوليائه يمنعهم في أنفاسهم، وسَكَناتِهم، وحَرَكاتهم أن ينظروا إلى غيره-أو يُثْبِتوا معه غيره- إلا منصوباً لقدرته، مصرَّفاً بمشيئته، نافذاً فيه حُكْمُ قضيته‏.‏

التقوى لجامٌ يكبحك عمَّا لا يجوز، زمامٌ يقودك إلى ما تحب، سوطٌ يسوقك إلى ما أُمِرْتَ به، شاخصٌ يحملك على القيام بحقِّ الله حِرْزٌ يعصمك مَنْ توَصل أعدائك إليك، عُوذَةٌ تشفيك من داء الخطأ‏.‏

التقوى وسيلةٌ إلى ساحات كَرمه، ذريعةٌ تتوسل بها إلى عقوبة جوده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

اتبعْ ولا تبتدع، واقتدِ بما نأمرك به، ولا تهتدِ باختيارك غير ما نختار لك، ولا تُعرِّج أوطان الكسل، ولا تجنح إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لكَ، وقم بنا لا بِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

انسلخْ عن إيابك، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغل عن حسبانك معنا، واحذر ذهابك عنا، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا‏.‏

ويقال التوكل تحقُّقٌ ثم تَخَلُّقٌ ثم توثق ثم تملق؛ تحققٌ في العقيدة، وتخلقٌ بإقامة الشريعة، وتوثق بالمقسوم من القضية، وتملّقٌ بين يديه بحُسْنِ العبودية‏.‏

ويقال التوكلُ تحقّقٌ وتعلقٌ وتخلقٌ، تحقّقٌ بالله وتعلّقٌ بالله ثم تخلقٌ بأوامر الله‏.‏

ويقال التوكل استواءُ القلب في العدم والوجود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ‏}‏‏.‏

القلبُ إذا اشتغل بشيء شُغِلَ عما سواه، فالمشتغلُ بما مِنَ العَدَم منفصلٌ عمن له القِدَمُ، والمتصل بقلبه بمن نعته القِدَم مشتغلٌ عمَّا من العدَم‏.‏‏.‏ والَليل والنهار لا يجتمعان، والغيبُ والغيرُ لا يلتقيان‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُم ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ‏}‏‏.‏

اللائي تظاهرتم منهن لَسْنَ أمهاتكم، والذين تبنيتم ليسوا بأبنائكم، وإن الذي صرتم إليه من افترائكم، وما نسبتم إلينا من آرائكم فذلك مردودٌ عليكم، غيرُ مقبولٍ منكم، وإن أمسكتم عنه بعد البيان نجوتم، وإن تمادَيتم بعد ما أعْلِمْتم‏.‏ أطلت المحنةُ عليكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

راعُوا أنسابهم، فإن أردتم غير النسبة فالأخوّةُ في الدِّين تجمعكم، وقرابةُ الدِّين والشكلية أولى من قرابة النَّسَبِ، كما قالوا‏:‏

وقالوا قريبٌ من أبٍ وعمومةٍ *** فقلتُ‏:‏ وإخوانُ الصفاء الأقاربُ

نُناسبهم شكلاً وعِلماً وأُلفةً *** وإن باعدتهم في الأصول المناسبُ

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

الإشارة من هذا‏:‏ تقديم سُنته على هواك، والوقوفُ عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار من تتوسل سبباً ونسباً على أعِزَّتِكَ ومَن والاكَ‏.‏

‏{‏وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ‏}‏‏:‏

ليكن الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك بالأقارب، وصلةُ الرحِم ليست بمقاربة الديار وتعاقب المزار، ولكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب‏:‏

أرواحنا في مكانٍ واحدٍ وغدت *** أشباحُنا بشآمٍ أو خراسان

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

أخذَ ميثاق النبيين وقتَ استخراج الذرية من صُلب آدم- فهو الميثاق الأول، وكذلك ميثاق الكلِّ‏.‏ ثم عند بَعْثِ كلِّ رسول ونُبُوَّةِ كلِّ نبيِّ أخذ ميثاقة، وذلك على لسانِ جبريل عليه السلام، وقد استخلص الله سبحانه نبيَّنا عليه السلام، فأسمعه كلامَه- بلا واسطة- ليلةَ المعراج‏.‏ وكذلك موسى عليه السلام-أخذ الميثاق منه بلا واسطة ولكن كان لنبينا- صلى الله عليه وسلم- زيادة حال؛ فقد كان له مع سماع الخطاب كشفُ الرؤية‏.‏

ثم أخذ المواثيق من العُبَّاد بقلوبهم وأسرارهم بما يخصهم من خطابه، فلكلِّ من الأنبياء والأَولياء والأكابر على ما يُؤهلهم له، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لقد كان في الأمم مُحَدَّثون فإن يكن في أمتي فَعُمَر» وغيرُ عمر مشارِكٌ لعمر في خواص كثيرة، وذلك شيء يتمُّ بينهم وبين ربِّهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

يسألهم سؤال تشريفٍ لا سؤال تعنيف، وسؤال إيجابٍ لا سؤال عتاب‏.‏ والصدقُ ألا يكون في أحوالِكَ شَوْبٌ ولا في اعتقادك رَيْبٌ، ولا في أعمالك عَيْبٌ‏.‏ ويقال من أمارات الصدق في المعاملة وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة مخلوق‏.‏ والصدقُ في الأحوال تصفيتُها من غير مداخلة إعجاب‏.‏

والصدق في الأقوال سلامتها من المعاريض فيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين الناس والتباعدُ عن التلبيس، وفيما بينك وبين الله بإدامة التبرِّي من الحَوْلِ والقوة، ومواصلة الاستعانة، وحفظ العهود معه على الدوام‏.‏

والصدق في التوكل عَدَمُ الانزعاج عند الفَقْدِ، وزوال الاستبشار بالوجود‏.‏

والصدق في الأمر بالمعروف التحرُّز من قليل المداهنة وكثيرها، وألا تتركَ ذلك لِفَزَعٍ أو لِطَمَعٍ، وأن تَشْرَبَ مما تَسْفِي، وتتصف بما تأمر، وتنهي ‏(‏نَفْسَك‏)‏ عما تَزْجُر‏.‏

ويقال الصدق أن يهتدي إليكَ كلُّ أحد، ويكون عليك فيما تقول وتظهر اعتماد‏.‏

ويقال الصدق ألا تجنحَ إلى التأويلات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

ذكرُ نعمة الله مُقابَلَتُها بالشكر، ولو تذكرتَ ما دَفَعَ عنك فيما سَلَفَ لهانت عليك مقاساةُ البلاءِ في الحال، ولو تذكرتَ ما أولاكَ في الماضي لَقَرُبَتْ من قلبك الثقةُ في إيصال ما تؤمِّلُه في المستقبل‏.‏

ومن جملة ما ذكَّرهم به‏:‏ ‏{‏إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ‏}‏ كم بلاءٍ صَرَفَه عن العبدِ وهو لم يشعر‏!‏ وكم شُغْلٍ كان يقصده فصَدَّه ولم يعلم‏!‏ وكم أمرٍ عَوَّقَه والعبدُ يَضِجُّ وهو- ‏(‏سبحانه‏)‏- يعلم- أَن في تيسيره له هلاكَ العبد فمَنَعَه منه رحمةً به، والعبدُ يتَّهِمُ ويضيق صَدْرُه بذلك‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏‏}‏

أحاط بهم سُرَادقُ البلاء، وأَحدقَ بهم عَسْكرُ العدوِّ، واستسلموا للاجتياح، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وتَقَسَّمَتْ الظنونُ، وداخَلَتْهُم كوامِنُ الارتياب، وبدا في سويدائهم جَوَلانُ الشكِّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

ثم أزال عنهم جملتها، وقَشَعَ عنهم شِدَّتها، فانجاب عنهم سحابُها، وتفرَّقَتْ عن قلوبهم همومُها، وتَفَجَّرَتْ ينابيعُ سكينتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

صَرَّحوا بالتكذيب- لما انطوت عليه قلوبُهم- حين وجدوا للمقال مجالاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

تواصَوْا فيما بينهم بالفرار عندما سَوَّلَتْ لهم شياطينُهم من وشك ظَفَرِ الأعداء‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ‏}‏ يتعلّلون بانكشافِ بيوتهم وضياع مُخَلَّفَاتِهم، ويكذبون فيما أظهروه عُذْراً، وهم لم يَحْمِلْهم على فعلهم غيرُ جُبْنِهِم وقلَةُ يقينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولكن لما عزم الأمر، وظهر الجدّ لم يساعدهم الصدقُ، ولم يذكروا أنهم سَيُسألون عن عهدهم، ويُعاقوبون على ما أسلفوه من ذنبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

لأَن الآجالَ لا تأخيرَ لها ولا تقديم عليها، وكما قالوا‏:‏ «إنّ الهاربَ عمّا هو كائن في كفِّ الطالب يتقلبُ»‏.‏

‏{‏وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاًَّ قَلِيلاً‏}‏‏:‏ فإنّ ما يدّخرُه العبدُ عن الله من مالٍ أو جاهٍ أو نَفيسٍ أو قريب لا يُبارَك له فيه، ولا يجدُ به مَنَعَةً، ولا يُرزقُ منة غبطة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

من الذي يحققُ لكم من دونه مَرْجُوًّا‏؟‏ ومن الذي يصرف عنكم دونه عَدُوًّا‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

هم الذين كانوا يمتنعون بأنفسهم عن نصرة النبي عليه السلام، ويمنعون غيرهم ليكون جمعُهم أكثرَ وكيدُهم أخفى، وهم لا يعلمون أنّ الله يُطْلِعُ رسولَه عليه السلام عليهم ثم ذَكَرَ وَصْفَهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمُ فَإِذَا جَآءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تّدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ‏}‏‏.‏

إذا جاء الخوفُ طاشت من الرعبِ عقولهم، وطاحت بصائرهم، وتعطلت عن النصرة جميعُ أعضائهم، وإذا ذهبَ الخوْفُ زَيَّنوا كلامَهم، وقدّموا خداعهم، واحتالوا في أحقاد خِستهم‏.‏‏.‏ أولئك هذه صفاتهم؛ لم يباشر الإيمانُ قلوبهم، ولا صدقوا فيما أظهروا من ادعائهم واستسلامهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

يحسبون الأحزابَ لم يذهبوا، ويخافون من عَوْدهم، ويفزعون من ظلِّ أنفسهم إذا وقعوا على آثارهم، ولو اتفق هجومُ الأعداءُ عليكم ما كانوا إلا في حرز سيوفهم ودرية رماحهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

«كان» صلة ومعناها‏:‏ لكم في رسول الله أسوة حسنة، به قدوتكم، ويجب عليكم متابعته فيما يرسمه لكم‏.‏ وأَقول الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله على الوجوب إلى أن يقوم دليل التخصيص، فأما أَحواله فلا سبيلَ لأحدٍ إلى الإشراف عليها، فإن ظَهَرَ شيء من ذلك بإخباره أَو بدلالة أقواله وأفعاله عليه فإن كان ذلك مُكْتَسَباً مِن قِبَلِه فيُلحق في الظاهر بالوجوب بأفعاله وأقواله، وإن كان غير مكتسبٍ له فهي خصوصيةٌ له لا ينبغي لأحد أَن يتعرّض لمقابلته لاختصاصه- صلى الله عليه وسلم- بعلوِّ رتبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

كما أنّ المنافقين اضطربت عقائدُهم عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهلُ اليقين ازدادوا ثِقةً، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً، ومن الله قوةً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

شَكَرَ صنيعَهم في المراس، ومدح يقينهم عند شهود الباس، وسماهم رجالاً إثباتاً لخصوصية رتبتهم وتمييزاً لهم من بين أَشكالهم بعلوِّ الحالة والمنزلة، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صدْقه ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، ولم يزيغوا عن عهدهم، ولم يراوغوا في مراعاة حدِّهم؛ فحقيقةُ الصدق حِفْظُ العهد وتَرْكُ مجاوزة الحدِّ‏.‏

ويقال‏:‏ الصدقُ استواءُ الجهر والسِّرِّ‏.‏

ويقال‏:‏ هو الثباتُ عندما يكون الأَمرُ جِدًّا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

في الدنيا يجزي الصادِقين بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية، وفي الآخرة بجميل الثواب وجزيلِ المآب والخلودِ في النعيم المقيم والتقديمِ على الأمثال بالتكريم والتعظيم‏.‏

‏{‏وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ على الوجه الذي سَبق به العلم، وتَعَلَّقت به المشيئة‏.‏

ويقال‏:‏ إذا لم يجزم بعقوبة المنافق وعَلَّقَ القولَ فيه بالرجاء فبالحريّ ألا يُخَيِّبَ المؤمنَ في رجائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

لم يُشمت بالمسلمين عَدُوًّا، ولم يُوصِّلْ إليهم مَنْ كيدهم سواءاً، ووضع كيدهم في نحورهم، واجتثَّهم من أصولهم، وبيِّن بذلك جواهر صِدْقهم وغير صدقهم، وشكَر مَنْ استوجب شكره مِنْ جملتهم، وفضحَ مَنْ استحقّ الذمّ من المدلسِّين منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

إنّ الحقَّ- سبحانه- إذا أجمل أكمل، وإذا شفى كفى، وإذا وفى أوفى‏.‏ فأظفر المسلمين عليهم، وأورثهم معاقلَهم، وأذلّ مُتعزِّزَهم، وكفاهم بكلِّ وجهٍ أمرهم، ومكَّنهم من قَتْلِهم وأسرِهم ونهْبِ أَموالهم، وسَبى ذراريهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

لم يُرِدْ أن يكونَ قلبُ أحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل، أو يعود إلى أحد منه أذى أو تعب، فخَيَّرَ- صلى الله عليه وسلم- نساءَه، ووفقَ اللَّهُ سبحانه عائشةَ أمّ المؤمنين- رضي الله عنها- حتى أخبرت عن صِدْقِ قلبها، وكمالِ دينها ويقينها، وبما هو المنتظر‏.‏ من أصلها وتربيتها، والباقي جرين على منهاجها، ونَسَجْنَ على مِنوالهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

زيادةُ العقوبةعلى الجُرْم من أمارات الفضيلة، ولذا فضل حدُّ الأحرار على العبيد وتقليل ذلك من أمارات النقص؛ فلما كانت منزلتُهن في الشرف تزيدعلى منزلة جميع النساء ضاعَفَ عقوبتهن على أجرامهن، وضاعف ثوابهن على طاعتهن‏.‏ وقال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

نهاهن عن التبذُّل، وأمَرَهُنَّ بمراعاةِ حُرْمَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، والتصاون عن تَطَمُّعِ المنافقين في مُلاينتهن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

«الرجس»‏:‏ الأفعالُ الخبيثةُ والأخلاقُ الدنيئة؛ فالأفعال الخبيثة الفواحش ما ظهرَ منها وما بطن، وما قلّ وما جلّ‏.‏ والأخلاقُ الدنيئةُ الأهواءُ والبِدَعُ كالبخل والشحِّ وقَطْعِ الرَّحِم، ويريد بهم الأخلاقَ الكريمةَ كالجُودِ والإيثار والسخاء وصِلَةِ الرَّحِمِ، ويديم لهم التوفيق والعصمة والتسدسد، ويُطهرهم من الذنوب والعيوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

أذْكُرْنَ عظيمَ النعمة وجليل الحالةٍ التي تجري في بيوتكن؛ من نزول الوحي ومجيء الملائكة، وحُرْمَةِ الرسول- صلى الله عليه وسلم- والنور الذي يقتبس في الآفاق، ونور الشمس الذي يَنبسط على العالم، فاعرفن هذه النعمة، وَارعين هذه الحُرمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ‏}‏‏.‏

الإسلام هو الاستسلام، والإخلاص، والمبالغة في المجاهدة والمكابدة‏.‏

‏{‏وَالْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏.‏

الإيمان هو التصديق وهو مجمع الطاعات، ويقال هو التصديق والتحقيق، ويقال هو انتسامُ الحقيقةٍ في القلب‏.‏ ويقال هو حياة القلب أولاً بالعقل، ولقومٍ بالعلم، ولآخرين، بالفهم عن الله، ولآخرين بالتوحيد، ولآخرين بالمعرفة، ولآخرين إيمانُهم حَياةُ قلوبهم بالله‏.‏

‏{‏وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ‏}‏‏.‏

القنوتُ طولُ العبادة‏.‏

‏{‏وَالصَادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ‏}‏‏.‏

في عهودهم وعقودهم ورعاية حدودهم‏.‏

‏{‏وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ‏}‏‏.‏

على الخصال الحميدة، وعن الصفات الذميمة، وعند جريان مفاجآت القضية‏.‏

‏{‏وَالخَاشِعِينَ وَالْخَاشعَاتِ‏}‏‏.‏

الخشوعُ إطراقُ السريرة عند بوادِه الحقيقة‏.‏

‏{‏وَالْمُتَصَدِّقينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ‏}‏‏.‏

بأموالهم وأنفسهم حتى لا يكون لهم مع أحدٍ خصومة فيما نالوا منهم، أو قالوا فيهم‏.‏

‏{‏وَالصَّآئِمِينَ وَالصَّآئِماتِ‏}‏‏.‏

الممسكين عمَّا لا يجوز في الشريعة والطريقة‏.‏

‏{‏وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ‏}‏‏.‏

في الظاهر عن الحرام، وفي الإشارة عن جميع الآثام‏.‏

‏{‏وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كّثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ‏}‏‏.‏

بألسنتهم وقلوبهم وفي عموم أحوالهم لا يَفْتُرُون، ولا يَتَدَاخَلُهم نسيان‏.‏

‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏‏.‏

فهؤلاء لهم جميلُ الحُسْنَى، وجزيلُ العُقْبَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

الا فتياتُ عليه في أمره والاعتراضُ عليه في حُكْمِه وتَرْكُ الانقيادِ لإشارته‏.‏ قَرْعٌ لبابِ الشِّرْكِ، فَمَنْ لم يُمْسِكْ عنه سريعاً وَقَعَ في وهدته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَليْكَ زَوْجَكَ وَاتِقَّ اللَّهِ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجٍ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً‏}‏‏.‏

أنعم الله عليه بأن ذَكَرَه وأفرده من بين الصحابة باسمه‏.‏

ويقال‏:‏ أنعم اللَّهُ عليه بإقبالِكَ عليه وتَبَنِّيكَ له‏.‏ ويقال‏:‏ بأن أَعْتَقْتَه، ويقال‏:‏ بالإيمان والمعرفة‏.‏ وأنْعَمْتَ عليه بالعتق وبأن تَبَنَّيْتَه‏.‏ ‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏ إقامةُ للشريعة مع عِلْمِكَ بأن الامر في العاقبة إلى ماذا يؤول، فإنَّ اللَّهَ أطْلَعَكَ عليه، وقلت له‏:‏ «اتق»‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ‏}‏‏:‏ أي لم تُظهِرْ لهم أنَّ الله عَرَّفَكَ ما يكون من الأمر في المستأنف‏.‏

‏{‏وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ‏}‏ مِنْ مَيْلِكَ ومحبتك لها لا على وجهٍ لا يَحِلُّ‏.‏ ‏{‏وَتَخْشَى النَّاسَ‏}‏ أي وتخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة من قصة زيد، وكانت تلك الخشية إشفاقاً منكَ عليهم، ورحمةً بهم‏.‏

ويقال‏:‏ وتستحي من الناسِ- واللَّهُ أحقُ أن تَسْتَحِيَ منه‏.‏

ويقالك تخشىلناسَ ألا يطيقوا سماعَ هذه الحالة ولا يَقْوَوا على تَحَمُّلِها‏.‏ فربما يخطر ببالهم ما يَنْفى عنهم وُسْعَهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏ لكي لا يكون عليك حَرَجٌ، ولكي لا يكونَ على المؤمنين حرج في الزواج بزوجات أدعيائهم، فإنما ذلك يُحرِّمُ في الابن إذا كان من الصُّلْبِ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً‏}‏‏.‏

لا يُعَارَضُ ولا يُنَاقَضُ، ولا يُرَدُّ ولا يُجْحَد‏.‏ وما كان على النبيِّ من حَرَجٍ بوجهٍ لكونه معصوماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

«ويخشونه»‏:‏ علماً منهم بأنه لا يُصِيبُ أحداً ضررٌ ولا محذورٌ ولا مكروهٌ إلا بتقديره فيفردونه بالخشية إذ عَلِموا أنه لا شيءَ لأحدٍ مِنْ دونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

لم يكن مضافاً إِلى ولدٍ فله عليكم شفقة الآباء‏.‏‏.‏ ولكن ليس بأبيكم‏.‏

ويقال نَسَبُه ظاهرٌ‏.‏ ولكن إنما يُعْْرَفُ بي لا بنَسَبِه؛ فقلَّما يقال‏:‏ محمدُ بن عبد الله، ولكن إلى أبد الأبد يقال‏:‏ محمد رسول الله‏.‏ وشعارُ الإيمانِ وكلمةُ التوحيدِ-بعد لا إله إلا الله- محمدٌ رسولُ الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

الإشارة فيه أَحِبُّوا الله؛ لأنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مَنْ أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره» فيجب أن تقول الله، ثم لا تنسَ الله بعد ذكرك الله‏.‏

ويقال‏:‏ اذكروا الله بقلوبكم؛ فإِنَّ الذكرَ الذي تمكن استدامته ذكرُ القلب؛ فأمَّا ذِكْرُ اللسانِ فإدامته مُسْرَمَداً كالمتعذر‏.‏

‏{‏وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏‏:‏ التسبيحُ من قبيل الذكر، ولكنه ذََكَره بلفظين لئلا تعتريك سآمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

الصلاة في الأصلِ الدعاءُ؛ فصلاتُه- سبحانه- دعاؤه لنا بالتقريب، وصلاةُ الملائكة دعاؤهم إليه لنا‏:‏ بالغفرانِ للعاصي، وبالإحسانِ للمطيع‏.‏

ويقال الصلاةُ من الله بمعنى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى الشفاعة‏.‏

‏{‏لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏‏:‏ ما ظلمات الكفر إلى نور الإيمان‏.‏

ويقال ليخرجكم من الظلمات إلى النور أي يعصمكم من الضلال بَرْوح الوصال‏.‏

ويقال ليخرجكم من ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير‏.‏

ويقال ليخرجكم من ظلمات نفوسكم إلى أنوار البصائر في قلوبكم‏.‏

ويقال ليخرجكم من أسباب التفرقة إلى شهود عين التوفيق، والتحقق بأوصاف الجمع‏.‏

ويقال يصونكم من الشِّرْكِ، ويُثبِتُكم بشواهد الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية، واللقاءُ إذا قُرِنَ بالتحية فلا يكون ذلك إلا بمعنى رؤية البَصَر‏.‏

والسلام خطاب يفاتح به الملوك إِخباراً عن عُلُوِّ شأنهم ورتبتهم، فإلقاؤه حاصِلٌ وخطابُه مسموعٌ، ولا يكون ذلك إلا برؤية البصر‏.‏

‏{‏أجْراً كَرِيماً‏}‏‏:‏ الكَرَمُ نَفْيُ الدناءة، وكريماً أي حسناً‏.‏

وفي الإشارة أجرهم موفور على عملٍ يسير؛ فإنَّ الكريم لا يستقصي عند البيع والشراء في الأعداد، وذلك تعريف بالإحسانِ السابق في وقت غيبتك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً‏}‏‏.‏

يأيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا إِنّا أرسلناكَ شاهداً بوحدانيتنا، وشاهداً تُبَشِّر بمتابعتنا، وتحذِّرُ من مخالفة أَمْرِنَا، وتُعْلِمُ الناسَ مواضعَ الخوف مِنَّا، وداعياً إلينا بنا، وسراجاً يستضيئون به، وشمساً ينبسط شعاعُها على جميع مَنْ صَدَّقَكَ، وآمَنَ بك، فلا يصل إلينا إِلاَّ مَنْ اتبَّعَكَ وخَدَمَك، وصَدَّقَك وقَدَّمَك‏.‏

‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ‏}‏ بفضلِنا معهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحسانِنا إليهم‏.‏ ومَنْ لم تُؤَثِرْ فيه بَرَكةُ إيمانه بك فلا قَدْرَ له عندنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

لا توافِقْ مَنْ أعرضنا عنه، وأضللنا به من أهلَ الكفر والنفاق، وأهل البِدَع والشِّقاق‏.‏ وتوكلْ على الله بدوام الانقطاع إليه، وكفى بالله وكيلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

إذا آثرتُمْ فراقَهُنَّ فَمَتُعوهن ليكونَ لهن عنكم تذكرة في أيام الفرقة في أوائلها إلى أَنْ تتوطَّنَ نفوسُهن على الفرقة‏.‏

‏{‏وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏‏:‏ لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئاً تخلَّفتُم به معهن، فلا تجمعوا عليهن الفراقَ بالحال والأضرارَ من جهة المال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

وسَّعْنَا الأمرَ عليكَ في باب النكاح بكم شِئْتتَ؛ فإنك مأمونٌ من عيب عدم التسوية بينهن وعدم مراعاة حقوقهن، ومن الحَيْفِ عليهن‏.‏ والتَّوْسعةُ في بابِ النكاحَ تَدُلُّ على الفضيلة كالحُرِّ والعبد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ‏}‏‏.‏ ‏{‏مَن تَشَاءُ‏}‏‏:‏ على ما تتعلَّق به إرادتُك، ويقع عليه اختيارُك، فلا حَرَج عليكَ ولا جُنَاح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

لمَّا اخْتَرْتَهُنَّ أثبت اللَّهُ لهن حُرْمة، فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ‏}‏ فكما اخترْنَكَ فلا تَخْتَرْ عليهن امرأةً أخرى تطييباً لقلوبهن، ونوعاً للمعادلة بينه وبينهن، وهذا يدل على كَرَمِه- والحِفَاطُ كَرَمٌ ودَيْن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا‏}‏ الآية‏.‏

أَمَرَهم بحفظ الأدب في الاستئذان، ومراعاة الوقت، ووجوب الاحترام؛ فإذا أُذِنَ لكم فادخلوا على وجه الأدب، وحِفْظِ أحكام تلك الحضرة، وإذا انتهت حوائجكم فاخرجوا، ولا تتغافلوا عنكم، ولا يَمْنَعَنَّكُم حُسْنُ خُلُقِه من حِفْظِ الأدب، ولا يحملنَّكم فرطُ احتشامِه على إبرامه‏.‏

‏{‏فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتِشِرُواْ وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِ مِنكُمْ‏}‏‏:‏ حُسْنُ خُلُقِه- صلى الله عليه وسلم- جَرَّهم إلى المباسطة معه، حتى أنزل اللَّهُ هذه الآية‏.‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقَلُوبِهِنَّ‏}‏‏:‏ نَقَلَهم عن مألوفِ العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وبَيَّنَ أن البَشَرَ بَشَرٌ- وإن كانوا من الصحابة، فقال‏:‏

‏{‏ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقَلَوبِهِنَّ‏}‏‏.‏

فلا ينبغي لأحدٍ أن يأمن نفسه- ولهذا يُشَدَّدُ الأمرُ في الشريعة بألا يخلوَ رجلٌ بامرأة ليس بينهما مَحْرَمَة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدَهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً‏}‏‏.‏

وهذا من خصائصه- صلى الله عليه وسلم، وفي هذا شبه رخصة لمن يلاحظ شيئاً من هذا، فيهتم بالاتصال مَنْ له مَيْلٌ إلَيهنَّ بغيرهن بعد وفاته- وإِنْ كان التحرُّزُ عنه- وعن أمثال هذا مِنْ تَرْكِ الحظوظ- أتمَّ وأعلى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

حِفْظُ القلبِ مع الله، ومراعاةُ الأمر- بينه وبين الله- على الصِّحَةِ في دوام الأوقات لا يَقْوى عليه إلا الخواصُّ من أهل الحضور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ‏}‏ الآية‏.‏

لما نزلت آيةَ الحجابِ شقَّ عليهن وعلى النسوان وعلى الرجال في الاستتار، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ هذه الآية للرخصة في نظر هؤلاء إلى النساء، ورؤية النساء لهم على تفصيل الشريعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

أراد الله- سبحانه- أن تكون للأمة عنده- صلى الله عليه وسلم- يَدُ خدمةٍ كما له بالشفاعة عليهم يَدُ نعمةٍ، فأَمَرَهم بالصلاة عليه، ثم كافأ- سبحانه عنه؛ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ صَلّى عليَّ مرةً صلى اللَّهُ عليه عشر مرات» وفي هذا إشارة إلى أن العبدَ لا يستغني عن الزيادة من الله في وقتٍ من الأوقات؛ إذ لا رتبةَ فوق رتبةِ الرسولِ، وقد احتاج إلى زيادةِ صلواتِ الأمَّةِ عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

يؤْذون اللَّهَ ورسولَه بعمل المعاصي التي يستحقون بها العقوبة، ويؤذون أولياءَه‏.‏ ولمَّا قال‏:‏ ‏{‏مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ فكذلك مَنْ آذى رسولَه وأنبياءَه عليهم السلام والمؤمنين فقد آذاه، ومعناه تخصيص حالتهم وإثبات رتبتهم‏.‏

ثم ذكر قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏.‏‏.‏‏}‏، ويدلُّ ذلك على أن رتبة المؤمنين دون رتبة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

هذا تنبيةٌ لهن على حِفْظِ الحُرْمة وإثبات الرُّتْبَة، وصيانةٌ لهن، وأمرٌ لهن بالتصاونِ والتعفُّفِ‏.‏ وقَرَن بذلك تهديده للمنافقين في تعاطيهم ما كان يشغل قلبَ الرسول صلى الله عليه وسلم، من الإرجاف في المدينة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

إنهم إِلَمْ يمتنعوا عن الإرجاف وأمثال ذلك لأجرينا معهم سُنَّتَنا في التدمير على مَنْ سَلَف من الكفار‏.‏

ثم ذَكَرَ مسألة القوم عن قيام الساعة وتكذيبهم ذلك؛ ثم استعجالهم قيامَها من غير استعدادٍ لها، ثم أخبر بصعوبة العقوبة التي علم أنه يُعَذِّبهم بها، وما يقع عليهم من الندامة على ما فَرَّطوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

نسبوه إلى الأُدْرَة، وأنَّ به عيباً في الخِلْقَة، ولكنه كان رجلاً حَيِيَّا، وكان إذا اغتسل لا يتجرَّد ‏(‏من ثوبِه‏)‏، فتوهموا به ذلك، وذات يوم خلا ليغسلَه، ووضع ثيابَه على حَجَرٍ فأمشى اللَّهُ الحَجَر بثيابه، وموسى يعدو خَلْفَه حتى تَوَسَّطَ بني إسرائيل، وشاهدوا خِلْقَتَه سليمةً، فوقف الحجرُ، وأخذ موسى ثيابه ولبسها، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً‏}‏ في القَدْرِ والمنزلةِ‏.‏ والوجاهة النافعة ما كان عند الله لا عند الناس، فقبولُ الناسٍ لا عِبْرَةَ به ولا خَطَرَ له، لا سيما العوامُ فإِنهم يَقْبَلُون بلا شيء، ويَرُدُّون بلا شيء قال قائلهم‏:‏

إِنْ كنتُ عندك يا مولاي مطرحاً *** فعند غيرك محمولٌ على الحدق

وقالوا‏:‏ فإِنْ أَكُ في شِرَارِكُم قليلاً *** فإني في خِيارِكُم كثيرٌ

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

القول السديد كلمةُ الإخلاص، وهي الشهادتان عن ضميرٍ صادق‏.‏

ويقال سدادُ أقوالِكم سدادُ أعمالِكم، ولقد هَوَّن عليكم الأمرَ فَمَنْ رضي بالقالة- وهي الشهادة بأن تَرَك الشِّرْك- وقالها بِصِدْقٍ أصلح اللَّهُ له أعمالَه الدنيوية من الخَلَل، وغَفَرَ له في الآخرة الزَّلَل؛ أي حصلت له سعادةُ الدارين‏.‏

ويقال ذَكَرَ ‏{‏أَعْمَالَكُمْ‏}‏ بالجمع، وقدَّمها على الغُفران؛ لأنه ما يُصْلِح لك في حالِكَ أعمالَكَ وإِنْ لم يَكْفِكَ ما أَهَمَّكَ من أشغالك‏.‏‏.‏ لم تتفرغْ إلى حديث آخِرَتِكَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

هنا إضمار أي‏:‏ أهل السموات والأرض والجبال‏.‏

وقيل أحياها وأعْقَلَها، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏ائتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏

‏{‏فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا‏}‏‏:‏ أي أبين أنْ تَخُنَّ فيها، ‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ‏}‏‏:‏ أي خان فيها‏.‏ وهم مراتب‏:‏ فالكفار خانوا في الأصل الأمانة- وهي المعرفة- فكفروا‏.‏ ومَنْ دُونَهم خانوا بالمعاصي، وبعضهم أَشَدُّ وبعضهم أهون، وكلُّ احتقب من الوِزْرِ مقدارَه‏.‏

ويقال «أبين» إِباءَ إشفاقٍ لا إِباء استكبارٍ، واستعفين *** فعفا عنهن، وأعفاهن مِنْ حَمْلها‏.‏

‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ‏}‏‏:‏ قَبِلَها ثم ما رعوها حقَّ رعايتها‏.‏‏.‏ كلٌّ بقدره‏.‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ بصعوبة حَمْلِ الأمانة في الحال، والعقوبة التي عليها في المآل‏.‏ وقومٌ قالوا عَرَضَ الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ وعَرَضَها على الإِنسان، فهن استعفين وهؤلاء لم يستعفوا ولم يراعوا‏.‏

ويقال‏:‏ الأمانة القيام بالواجباتِ أصولها وفروعها‏.‏

ويقال‏:‏ الأمانة التوحيد عقداً وحفظ الحدود جهداً‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا حَمَلَ آدمُ الأَمانة وأولاده قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحَرِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 70‏]‏‏.‏‏.‏ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏؟‏

ويقال حمل الإنسانُ بالله لا بنَفْسِه‏.‏ ويقال ظَلَمَ نَفْسَه حيث لم يُشْفِقْ مما أشفقت منه السمواتُ والأرضون‏.‏ والظُلْمُ وَضْعْ الشيءِ في غير موضعه‏.‏

ويقال كاشَفَ السمواتِ والأرضَ بوصف الربوبية والعظمة فأشفقوا، وكاشَفَ آدمَ وذُرِّيَتَه بوصف اللطفِ فقَبِلوا وحملوا، وفي حال بقاء العبد يا لله يحمل السمواتِ والأرضَ بشعرة من جَفْنِه‏.‏ ويقال كانت السموات والأرض أصحاب الجثث والمباني فأشفقوا من حَمْل الأمانة‏.‏ والحِمْلُ إنما تحمله القلوب‏.‏ وآدم كان صاحبَ معنًى فَحَمل، وأنشدوا‏:‏

حملت جبال الحكم فوقي وإنني *** لأَعْجَزُ عن حمل القميص وأضعفُ

ويقال لما عَرَضَ الحقُّ الأمانةَ على الخَلْقِ عَلَّقَ آدمُ بها هَمَّتَه، فصرف بهمته جميع المخلوقات عنها، فلمَّا أبوا وأشفقوا حَمَلَها الإنسانَ طوعاً لا كرهاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

اللام في «ليعذب» للصيرورة والعاقبة؛ أي صارت عاقبةُ هذا الأَمرِ عذابَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والتجاوز‏.‏ ‏(‏تَمَّت السورة‏)‏ قد يقال‏:‏ المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات والعاصون من المؤمنين والمؤمنات وَرَدَ ذكرهم‏.‏‏.‏ فأين العابدون وذكرهم‏؟‏

ولكنهم في جملة مَنْ مضى ذِكْرُهم، وليسوا في المشركين ولا في المنافقين، فلا محالة في جملة العاصين الذين تاب عليهم‏.‏

فيأيها العاصي، كنت تحذر أَنْ يُخْرِجَك العابدون من جملتهم، فاشْهد الجبَّارَ- في هذا الخطاب- كيف أدرجك في جملتهم‏؟‏‏!‏

سورة سبأ

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه، ومَدْحُه لنفسه إِخبارٌ عن جلالِه، واستحقاقه لنعوت عزِّه وجمالِه، فهو في الأَزل حامدٌ لنفسِه محمودٌ، وواحدٌ موجود، في الآزال معبود، وبالطلبات مقصود‏.‏

‏{‏الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ‏}‏‏:‏ المُلْكُ لا يكون بالشركة؛ فلا مَلِكَ إلا الله‏.‏ وإِنْ أجرى هذا الاسمَ على مخلوق بالزنجيُّ لا يتغير لونُه وإِنّ سُمِّيَ كافوراً‏!‏

‏{‏وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الأَخِرَةِ‏}‏ مِنَ الذين أَعتقهم، وفي النعمة أغرقهم‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْحَكِيمُ‏}‏ بتخليد قومٍ في الجنة، وتأبيد قومٍ في النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ‏}‏ من الحَبِّ تحت الأرض، والماءِ يرسب فيها، والأشياءِ التي تُلْقَى عليها، والناس يُقْبَرُون في الأرض‏.‏‏.‏

‏{‏وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ من النبات والأزهار، والموتى يُبعثون‏.‏

‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ‏}‏ من القَطْرِ والمَلَكِ، والبركة الرزق، والحُكْمِ‏.‏

‏{‏وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ من الصحف، وحوائج الناس‏:‏ وهِمَمِ الأولياء‏.‏

‏{‏وَهُوَ الرَّحِيمُ‏}‏ بعباده، ‏{‏الغَفُورُ‏}‏ لجميع المذنبين من المسلمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

كرّر في القرآن تكذيبهم بالساعة، واستبعادهم لذلك، والردَّ عليهم‏.‏ وأخبر عن سابق عِلمه بهم، وأنه لا يخرج شيء من معلوماته عن علمه، فأثبت علمه بكل شيءٍ وشموله لكل شيء‏.‏‏.‏ لأَنه لو لم يكن له علم لكان نقصاً، ولأنه لو خرَجَ مَعلومٌ واحدٌ عن علمهِ لكان بقدرته نقصٌ، والنقصُ- بأي وصفٍ كان- لا يجوز في صفته بحالٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

المحسنون منهم يجازيهم بالخيرات المتصلة، والكافرون منهم يكافئهم على كفرهم بالعقوبات غيرَ منفصلة‏.‏

ويرى الذين أوتوا العلم كتابك الذي أَتَيْتَ به حَقاً وصِدْقاً‏.‏ والذين كفروا قال بعضهم لبعض‏:‏ إِنَّهم يرون أن هذا الذي تقول به من النشر والحساب والبعث كذبٌ، أو أَنّ بِك جِنَّةً، ثم أقام عليهم حُجة التجويز بما أجرى به سُنَّتَه في الخلق والإبداع‏.‏‏.‏ فما زادهم ذلك إِلا جحوداً، وما قابلوه إلا عنوداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

«داود» اسم أعجمي، وقيل سمي داود لأنه داوى جَرْحه، وَرَدَ في القصة أنه قال في إحدى مناجاته‏:‏ يا رب، إني أرى في التوارة ما أعطيتَ لأوليائك وأَنبيائك من الرتب فأعطنيها فقال‏:‏ إني ابتليتهم فصبروا، فقال‏:‏ إني أصبر على بلائك، فأَعْطني ما أعطيتهم، فأبلاه، فوقف، فأعطاه ما أعطاهم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتينَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً‏}‏‏:‏ تكلموا في هذا الفضل؛ فمنهم مَنْ أراد ما ذكره بعده وهو قوله للطير‏:‏ ‏{‏أَوِّبِى مَعَهُ‏}‏‏:‏ وكذلك الجبال، وكان في ذلك تنفيس في وقت حُزْنِه وبكائه‏.‏ وقيل ذلك الفضلُ رجوعُه إلى الله- في حال ما وقع له- بالتنصل والاعتذار‏.‏ ويقال هو شهودُه موضِعَ ضرورته وأنه لا يُصْلِحُ أمرَه غيرُه‏.‏ ويقال طيب صوته عند قراءة الزبور حَتى كان ليرْغبُ في متَابعته مَنْ يسمع إليه‏.‏ ويقال حلاوةُ صوته في المناجاة‏.‏ ويقال حُسنُ خُلقه مع أمته الذين اتبعوه، ويقال توفيقه للحكم بين أمته بالعدل‏.‏‏.‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ‏}‏ أمرَ الجبالَ والطيرَ بمجاوبته حتى خرَجَ إلى الجبال والصحارى ينوح على نفسهِ‏.‏

ويقال أوحى الله له‏:‏ يا داود، كانت تلك الزَّلَّةُ مباركةً عليك‏!‏ فقال‏.‏ يا رب، وكيف‏؟‏ فقال‏:‏ كنتَ تجيء قبلها كما يجيء المطيعون والآن تجيء كما يجيء أهل الذنوب‏!‏

يا داود، إن أنينَ المذْنبين أحبُّ إليّ من صُراخ العابدين‏!‏

ويقال، كان داود يقول‏.‏ اللهمّ لا تَغفرْ للخاطئين، غيرةً منه وصلابةً في الدين *** فلما وقع له ما وقع كان يقول‏.‏ اللهم اغفر للمذنبين، فعسى أن تغفرَ لداود فيما بينهم‏.‏

ويقال لمَّا تاب الله عليه، واجتمع الإنسُ والجنُّ والطير بمجلسه، وَرَفع صوتَه، وأداره في حَنَكِه على حسب ما كان من عادته تفرّقت الطيور وقَالوا‏.‏ الصوتُ صوتُ داود والحال ليست تلْك‏!‏ فأوحَى اللَّهُ إليه هذه وَحْشةُ الزّلة، وتلك كانت أُنسَ الطاعة‏.‏‏.‏ فكان داودُ يبكي وينوح ويصيح والطير والجبالُ معه‏.‏

وَيقال ليس كلُّ مَنْ صاح وراءه معنى، فالمعنى كان مع داود لا مع الجبال والطير‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدَِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً‏}‏‏.‏ ألان له الحديدَ، وجعل ذلك معجزةً له، وجعل فيه توسعةَ رزقه، ليجدَ في ذلك مكسباً، لِيَقْطَعَ طَمَعَه عن أُمته في ارتفاقه بهم ليباركَ لهم في اتِّباعِه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

أي آتينا سليمانَ الريح أي سَخّرناها له، فكانت تحمل بساطة بالغدو مسيرة شهر؛ وبالرواح مسيرةَ شهر‏.‏

وفي القصة أنه لاحظ يوماً مُلْكَه، فمال الريحُ ببساطه، فقال سليمان للريح‏:‏ استو، فقالت الريح‏:‏ استوِ أنت، فما دمتَ مستوياً بقلبك كنتُ مستوياً بك، فلما مِلْتَ مِلتُ‏.‏

‏{‏وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ‏}‏‏.‏

أي وآتيناه ذلك، فكانت الشياطينُ مُسَخَّرةً له، يعملون ما يشاء من الأشياء ذكرها سبحانه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ‏}‏‏.‏

أي اعملوا يا آل داود للشكر، فقوله‏:‏ «شكراً» منصوب لأنه مفعول له‏.‏

ويقال شكراً؛ منصوب لأَنه مفعول به مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنين‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقد مضى طَرَفٌ من القول في الشكر‏.‏ والشكور كثير الشكر، والأصل في الشكر الزيادة، والشكيرة اسم لما ينبت تحت الأشجار منها، ودابة شكور إذا أظهرت من السِّمَن فوق ما تُعْطَى من العَلَفِ؛ فالشكور الذي يشكر على النعمة فوق ما يشكر أمثالُه وأضرابُه‏.‏ وإذا كان الناسُ يشكرونه على الرخاء فالشكور يشكره في البلاء‏.‏

والشاكر يشكر على الَبذْلِ، والشكور على المنع‏.‏‏.‏ فكيف بالبذل‏؟‏

والشكور يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه ومالِه، والشاكر ببعض هذه‏.‏

ويقال في ‏{‏وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشّكُورُ‏}‏ قليلٌ مَنْ يأخذ النعمة مني ولا يحملها على الأسباب؛ فلا يشكر الوسائطَ ويشكرني‏.‏ والأكثرون يأخذون النعمة من الله، ويَجِدُون الخيرَ مِنْ قِبَلهِ ثم يتقلدون المِنَّةَ من غير الله، ويشكرون غيرَ الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

كان سليمانُ- عليه السلام- يتكئ على عصاه وقتما قُبِضُ، وبقي على ذلك الوصف مدةً، والشياطين كانوا مُسَخَّرين يعملون ما أمرهم به، ويتصرفون على الوجه الذي رَسَمَ لهم، وينتهون عمَّا زَجَرَهم، فقد كانوا يتوهمُّون أَنه حيٌّ‏.‏ ثم إنَّ الأرَضَة أكلت عصاه فَخَرَّ سليمانُ فَعلِمَ الشياطين عندئذ أنه مات، فرجعوا إلى أعمالهم الخبيثة، وانفكَّ عنهم ما كانوا عليه من التسخير؛ وهكذا المَلِكُ الذي يقوم مُلكُه بغيره، ويكون استمساكه بعصا‏.‏ فإنه إذا سَقَطَ سَقَطَ بسقوطه، ومَنْ قام بغيره زال بزواله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

كانوا في رَغَدٍ من العَيْش وسلامة الحال ورفاهته، فأُمِروا بالصبر على العافية والشكر على النعمة، وهذا أمرٌ سهلٌ يسيرٌ، ولكنهم أعرضوا عن الوفاق، وكفروا بالنعمة، وضَيَّعوا الشكر، فَبَدَّلوا وبُدِّلَ بهم الحال، كما قالوا‏:‏

تبدلت وتبدلنا يا حسرةً لِمَن *** ابتغى عِوَضاً لِسَلْمَى فلم يَجِدِ

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

كذلك من الناس من يكون في رَغَدٍ من الحال، اتصالٍ من التوفيق، وطَرَبٍ من القلب، ومساعدةٍ من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً أو يسيء أدباً أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما هو به، فيتغير عليه الحالُ؛ فلا وقتَ ولا حالَ، ولا طربَ ولا وصالَ؛ يُظْلِمُ عليه النهارُ وقد كانت لياليه مضيئةَ، كما قلنا‏.‏

ما زلت أختال في زمانٍ وحالِ *** حتى أَمِنْتُ الزمانَ مَكْرَه

حال عليَّ الصدودُ حتى *** لم تَبْقَ مما شَهِدْتَ ذرَّة

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ما عوملوا إلا بما استوجبوا، ولا سُقُوا إلاَّ مِمَّا ثَبِطوا، وما وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا‏!‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏:‏ ما كان من شأنهم إلا التمادي في عصيانهم، والإصرار على غيهم وطغيانهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏‏.‏

فرَّقناهم تفريقاً حتى اتخذهم الناسُ مثلاً مضروباً؛ يقولون‏:‏ ذهبوا أيدي سبأٍ، وتفرَّقوا أيادي سبأ‏.‏ وفي قصتهم آياتٌ لكل صبَّار على العاقبة، شكور على النعمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

صدَّق عليهم إبليس ظنّه- وإنْ كان لا يملك لنفسه أمراً، فإبليس مُسَلِّطٌ على أتباعه من الجنِّ والإِنس، وليس به من الإضلال شيء، ولو أمكنه أَن يَضُرَّ غيرَه لأمكنه أن يمسك على الهداية نَفْسَه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الإِسراء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

‏{‏وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَئ حَفِيظٌ‏}‏‏:‏ يهدي من يشاء ويضل من يشاء‏.‏ ثم أخبر- سبحانه وتعالى- أنه بمُلْكِه متفرِّدٌ، وفي الألوهية متوحِّدٌ، وعن الأضداد والأنداد متعزِّزٌ، وأَنهم لا يملكون مثقالَ ذَرَّةٍ، ولا مقياسَ حَبَّةٍ، وليس منهم نصير، ولا شريك ولا ظهير، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأن الملائكة في السماءِ بوصف الهيبة فَزِعُون، وفي الموقف الذى أثبتهم الحقُّ واقفون، لا يفترون عن عبادته ولا يعصون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لم يَقُلْ أحدٌ- مع شِرْكِه- إنه يُحِيلُ في الرزق على أحدٍ غيره، فكما لا شريكَ له في الرزق ولا شريكَ له في الخَلْق فلا شريكَ له في استحقاق العبادة والتعظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولا تسألون عما أجرمنا ولا نحن نسأل عن إجرامكم *** ويوم الجمع يحاسِب اللَّهُ كُلاَّ على أعماله، ويُطَالِبُ كُلاً بشأنه، لا يؤاخِذُ أَحداً بعمل غيره، وكلٌّ يُعْطَى كتابَه، ويَطْلُبُ اللَّهُ مِنْ كلَِّ واحدٍ حسابَه‏.‏

وقد أجرىلله سُنَّتَه بأن يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم‏.‏ فللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة، وللصلاة بالجماعة أثر مخصوص‏.‏ وقد عاتب اللَّهُ- سبحانه- الذين يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومَدَحَ مَنْ لا يتفرَّق إلا عن استئذان‏.‏

والشيوخُ ينتظرون في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية‏:‏

‏{‏قُلْ يَجْمَعُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

كانوا يقولون في تلبيتهم‏:‏ لبيكَ لا شريك لكَ، هو لك، تملكه وما ملك، لانهماكهم في ضلالتهم‏.‏ وبعد تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تقدر، ولا تسمع ولا تُبصر، وقعت لهم شبهةُ استحقاقها العبادة، فإذا طولبوا بالحجة لم يذكروا غير أنهم يُقلدون أسلافهم *** وهذا هو الضلال البعيد والخُسران المبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

أَرسلناكَ مُؤيَّداً بالمعجزات، مُشرَّفاً بجميع الصفات، سيداً في الأرضين والسموات، ظاهراً لأهل الإيمان، مستوراً عن بصائر أهل الكفران- وإِن كنتَ ظاهراً لهم من حيث العيان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يَنُظُرونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 198‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

لكثرة ما يقولون هذا كرّره اللَّهُ في كتابه خبراً عنهم، والجواب إن لكم ميعاد يومٍ، وفي هذا الميعاد لا تستأخرون ساعةً ولا تستقدمون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

لو رأيتهم يومذاك لرأيتَ منظراً فظيعاً؛ يرجعُ بعضهم إلى بعض القولَ، ويُحيل بعضهم على بعضٍ الجُرمَ؛ يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا‏:‏ أَنتم أضللتمونا، ويُنكرُ الذين استكبروا ويقولون‏:‏ بل أنتم اتبعتمونا *** وهكذا أصحابُ الزلاتِ الأخلاءُ في الفساد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وكذلك الجوارحُ والأعضاء غداً يشهد بعضها على بعض؛ فاليد تقول للجملة أخذت، والعين تقول أبصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة، ومَنْ عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لاعتبروا، ولو اعتبروا لتابوا ووفّقُوا *** ولكن ليقضي اللَّهُ أَمْراً كان مفعولاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

أي قابلوا رُسُلَنا بالتكذيب، وصَبَر رُسُلُنا *** وماذا على هؤلاء الكفار لو آمنوا بهم‏؟‏ فهم لنجاتهم أُرسلوا، ولصلاحِهم دَعَوا وبلغَّوا، ولو وافقوهُم لسعدوا *** ولكنّ أقساماً سبقت، وأحكاماً حقت، والله غالبٌ على أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ليس هذا بكثرة الأَموال وَالأولاد، وإِنما هي بصائرُ مفتوحةٌ لقوم، وأخرى مسدودةٌ لقوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

لا تستحقّ الزّلفى عند الله؛ بالمال والأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة والأَحوال الصافية والأنفاس الزاكية، بلْ بالعناية السابقة، وَالهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة ‏{‏فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ‏}‏‏:‏ يضاعف على ما كان لِمَنْ تقدمهم من الأُمم ‏{‏وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ‏}‏ مِنْ تكَّدر الصفوة والإخراج من الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

هم الذين لا يحترمون الأولياء، ولا يراعون حقّ اللَّهِ في السرُ، فهم في عذاب الاعتراض على أَولياء الله، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله، ثم في عذاب السقوط من عين الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

منَ الخَلَف في الدنيا الرضا بالعَدَم والفقد، وهو أتمّ من السرور بالموجود؛ ومن ذلك الأنسُ بالله في الخلوة؛ ولا يكون ذلك إلا مع التجريد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قومٌ كانوا يعبدون الملائكة فيختبرهم عنهم؛ فيتبرأون منهم وينزِّهون الله ويسبحونه، فيفتضح هؤلاء- والافتضاحُ عند السؤال من شديد العقوبة، وفي بعض الأخبار‏:‏

أَنّ غداً منْ يسألهم الحقّ فيقعْ عليهم من الخجل ما يجعلهم يقولون‏:‏ عذَّبنا ربنا بما شئت من ألوان العقوبة ولا تعذبنا بهذا السؤال‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

الإشارة فى هذا أنّ مَن علقَ قلبه بالأغيار؛ وظنّ صلاحَ حاله بالاحتيال؛ والاستعانة بالأمثال والأَشكال ينزعُ اللَّهُ الرحمةَ من قلوبهم؛ ويتركهم، ويشوشُ أحوالهم، فلا لهم من الأَمثال والأشكال معونة، ولا لهم منْ عقولهم في أُمورهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، وإنْ رجعوا لا يرحمهم ولا يجيبهم، ويقول لهم‏:‏ ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏43‏)‏‏}‏

الحكماء، والأَولياء- الذين هم الأئمة في هذه الطريقة- إذا دَلوا الناسَ عَلَى الله‏.‏ قال بعض إخوان السوء- مثل بعض المتنصحين من أهل الغفلة وأبناء الدنيا لمريدٍ‏:‏ ما هذا‏؟‏ من الذي يطيق كل هذا‏؟‏ ربما لا تُتمّمُ الطريق‏!‏

لا بُد من الدنيا ما دُمت تعيش‏!‏‏.‏‏.‏ وأمثال ذلك، حَتى يميل هذا المسكينُ عند قبول النصح، وربما كان له هذا من خواطره الدنية *** فيهلك ويضلّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

الإشارة من هذا إلى أهل الغفلة؛ يعارضون أصحابَ القلوب فيما يجري من الأمور، بما تشوِّش إليهم نفوسُهم، ويخطر ببالهم من هواجسهم عن مُقْتَضَى تفرقةِ قلوبهم-على قياس ما يقع لهم- مِنْ غيرِ استنادٍ إلى إلهامٍ، أو اعتمادٍ على تقديرٍمن الله وإفهام‏.‏

وأهلُ الحقائق- الذين هم لسانُ الوقت- إذا قالوا شيئاً أو أطلقوا حديثاً، فلو طولبوا بإقامة البرهان عليه لم يمكنهم؛ لأن الذي يتكلم عن الفراسة أو عن الإلهام، أو كان مُسْتَنْطَقاً فليس يمكن لهؤلاء إقامة الحجة على أقوالهم‏.‏ وأصحابُ الغفلة ليس لهم إيمان بذلك، فإذا سمعوا شيئاً منه عارضوهم فيهلكون، فسبيلُ هؤلاء الأكابر عند ذلك أن يسكتوا، ثم الأيام تجيب أولئك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

يقول‏:‏ إذا سوَّلَتْ لكم أنفسُكم تكذيبَ الرسولِ فأنعموا النظرَ *** هل تَرَوْنَ فيه آثار ما رميتوه به‏؟‏ هذا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قُلْتُم إنه ساحر- فأين آثار السحر على أحوله وأفعاله وأقواله‏؟‏ قلتم إنه شاعر- فمن أي قسم من أقسام الشعر كلامه‏؟‏ قلتم إنه مجنون- فأيّ جنونٍ ظهر منه‏؟‏

وإذ قد عجزتم عن ذلك *** فهلاَّ عرفتم أنه صادق‏؟‏‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

يقذف بالحقِّ على باطل أهل الغفلة فتزول حِيَلُهم، ويظهر عَجْزُهم‏.‏ ويقذف بالحقِّ على أحوال أهل الخِلاف فيضمحل اجتراؤهم، ويحيق بهم شؤمُ معاصيهم‏.‏

ويقذف بالحقِّ-- إذا حضر أصحاب المعاني- على ظُلُماتِ أصحاب الدعاوى فيخمد ثائرتَهم، ويفضحهم في الحال، ويْفضح عوارُهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ‏(‏49‏)‏‏}‏

الباطلُ على مَمَرِّ الأيام لا يزيد إلا زهوقاً، والحقُّ على مَمَرِّ الأيام لا يزداد إلا قوةً وظهوراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

إنْ كنتُ مهتدياً فبربِّي لا بجهدي‏.‏ وإنْ كن عندكم من أهل الضلال فوبالُ ضلالتي عائدٌ عليَّ، ولن يضرِّكم ذلك‏.‏ فانظروا أنتم إلى أنفسكم *** أين وقعتم‏؟‏ وأي ضرر يعود عليكم لو أطعتموني‏؟‏ لا في الحال تخسرون، ولا في أنفسكم تتعبون، ولا في جاهكم تنقصون‏.‏

وما أخبركم به نَقْصِ أصنامكم فبالضرورة أنتم تعلمون‏!‏ فما لكم لا تُبْصِرون‏؟‏ ولا لأنفسكم تنظرون‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

أي لو رأيتَ ذلك لرأيتَ فظيعاً، وأَمراً عظيماً؛ إذا أخذهم بعد الإمهال فليس إلا الاستئصال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏‏}‏

إذا تابوا- وقد أُغْلقَتْ الأبواب، وندمُوا- وقد تقطَّعَت الأسباب *** فليس إلا الحسرات والندم، ولات حين ندامة‏!‏

كذلك من استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه يُتَجَاوَزُ عنه مرةً، ويَعْفَى عنه كَرَّةً، فإذا استمكنت منه القسوةُ وتَجَاوَزَ سوءُ الأدبِ حَدَّ الغفلة، وزاد على مقدار الكثرة *** يحصل له من الحقِّ رَدٌ، ويستقبله حجاب، وبعد ذلك لا يُسْمَعُ له دعاء، ولا يُرْحَمُ له بكاء، كم قيل‏:‏

فَخَلِّ سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا *** فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

التوبة يشتهونها في آخرالأمر وقد فات الوقت، والخَصْمُ يريد إرضاءه فيستحيي أن يذكر في ذلك الوقت، وينسدُّ لسانه ويعتقل؛ فلا يمكنه أَن يُفْصِح بما في قلبه، ويودُّ أَنْ لو كان بينه وبين ما أسلفه بُعْدٌ بعيد، ويتمنى أن يُطِيعَ فلا تساعده القوةُ، ويتمنى أن يكون له- قبل خروجه من الدنيا- نَفَسٌ *** ثم لا يتفق‏.‏